صُلح الحديبية – سُنَّة جَلية وفَتحٌ الهي

 إحدى خصال النبي محمد صلوات الله وسلامه عليه والتي ملأت روحه هي محبته للسلم والأمن. فكان يستغل عادات وتقاليد قومه لبناء جسور التعارف والوئام والحد من العداوة والبغضاء ولو بالتفاوض والعقود، كزواجه من أم حبيبة بنت أبي سفيان، والذي كان ألد اعدائه عندئذ، وصفية بنت حُيَي بن أخطب الذي حض قريش وألَبَ الأعراب لمحاربته في غزوة الأحزاب. 

وفي موسم العمرة لهذا العام، استعمل صلوات الله عليه فرصة زيارة البيت الحرام، والتي هي من أعرق عادات العرب، والمسلمون ليسوا بعيدين عمن بناه، إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام. كما يبدو في الظاهر أن حجته في ذلك أن للمسلمين الحق، كما لغيرهم، في أداء طقوسهم فيه. وهكذا دعا النبي المسلمين وغير المسلمين للانضمام إليه في رحلة سلمية لأداء العمرة  حتى وصل عدد الحجيج إلى 1400.

وعندما علمت قريش بخطوة المسلمين أرسلت على عجل خالد بن الوليد مع خمسين فارس لصد المسلمين قبل أن يصلوا إلى حدود مكة. لأنه إن دخل المسلمون حدود مكة ، فلا تستطيع قريش رفضهم إذ تكون بذلك قد خالفت عهودها في استقبال وخدمة الحجيج في مكة.

بالطبع، اختار الذي أرسل رحمة للعالمين عدم مواجهة الخمسين فارس، على الرغم من كثرة عدد المسلمين وامكانية تحقيق النصر بسهولة، فأخذوا طريقاً آخر عبر الأخاديد غير المستخدمة  الضيقة والصخرية للوصول إلى مكة. وهكذا تجنب المسلمون العنف والبغضاء. وعند وصول المسلمين إلى الحديبية بالقرب من مكة وفي اللحظة التي نزل فيها رسول الله من على ناقته بدى ما في صدره من حب للسلام والأمن والإنسانية، إذ قال: 

“والذي نفسي بيده لا يسألوني خطة يعظمون فيها حرمات الله إلا أعطيتهم إياها.”  البداية والنهاية ج ٤٨/٢ “.

ثم أرسل مبعوث إلى قريش لإعلامهم عن نيته  في أداء العمرة فقط. فرفضت قريش بشدة السماح للمسلمين بدخول مكة. وحاولت استفزاز المسلمين للقتال لأن القتال ضمن حدود مكة يمنع المسلمين تلقائياً من دخول البيت الحرام. وقامت قريش أيضاً بسجن مبعوث النبي، عثمان بن عفان لاستفزاز المسلمين للانخراط في إراقة الدماء، كما أرسلوا ثمانين رجلا ليلا للإغارة على المسلمين، ومع ذلك أبى نبي السلام أية أعمال عنفية، بل أعاد الثمانين كأسرى حرب إلى قريش. 

ثم جرت محادثات بين المسلمين وقريش عبر عدد من السفراء منهم عروة بن مسعود الثقفي وهو زعيم بارز في قبيلة ثقيف في الطائف. وبعد ساعات من الحوار والمفاوضات مع الرسول صلى الله عليه وسلم ، عاد عروة إلى قريش بهذه المقولة:

“أي قوم والله لقد وفدت على الملوك، ووفدت على قيصر وكسرى والنجاشي، والله إني لم أرى ملكا قط يحب أصحابه ما يحب أصحاب محمد محمداً… وإنه قد عرض عليكم خطة رشد فاقبلوها.”

وكان ايضا من مبعوثي قريش الحليس بن علقمة الكناني وكان زعيم الأحباش في مكة، وكانت قبائل الأحباش قد عاقدت قريش على حمايتها في مقابل خدمة الأحباش للحجيج. ولكن وفي طريقه إلى المسلمين، لاحظ الحليس أن المسلمين يرتدون ملابس الحجاج البيضاء وإلى جانبهم الأضاحي، فما كان منه الا ان عاد الى قريش قائلا:

“يا معشر قريش ، والله ما على هذا حالفناكم، ولا على هذا عاهدناكم. ‏أيُصَدُ عن بيت الله من جاء معظماً له‏!‏ والذي نفس الحليس بيده ، لتخلن بين محمد وبين ما جاء له أو لأنفرن الأحابيش نفرة رجل واحد.” فقالوا له‏:‏ “مه ، كف عنا يا حليس حتى نأخذ لأنفسنا ما نرضى به.”

بعد خمسة أيام من المفاوضات الدبلوماسية المتعثرة، والفشل في تحفيز المسلمين على القتال، وعواقب سياسة منع الناس من الحج، وضغط المفاوضين المتزايد، وافقت قادة قريش على الدخول في هدنة مع المسلمين وأرسلوا مفاوضهم سهيل بن عمرو. ولدى رؤية النبي صلوات الله عليه للمبعوث الجديد، قال: 

“لقد سَهُلَ لكم من امركم، اراد القوم الصلح حين بعثوا هذا الرجل.”

بعد ذلك ، تم إجراء تسوية غير مسبوقة ومصالحة مع قريش والتي يظهر من خلالها بعد وعمق بصيرة النبي الكريم. من تلك البنود: عشرة سنين هدنة بين المسلمين وقريش وأن ترفع قريش سيادتها عن القبائل وانه من أحب أن يدخل في عقد محمد وعهده دخل فيه ومن أحب أن يدخل في عقد قريش وعهدهم دخل فيه، وإن بيننا عَيبَة مكفوفة (صدور نقية من الغل والخداع مطوية على الوفاء بالصلح)، وأنه لا إسلال ولا إغلال.” 

غير أن معظم من كان مع النبي هم ممن اعتادوا على الحروب والقتال ولم يعتادوا على المفاوضات والدبلوماسية استاؤوا لكثير من البنود والغضب ملأ وجوههم. البنود التي أثارت استياءهم وتوترهم بكثرة هي أن لا يعتمروا لعامهم الحالي، بل يعودون للعمرة في العام المقبل، أن يرد المسلمون من اتى اليهم مسلما من قريش، وان لا على قريش أن ترد الى المسلمين من أتاهم منهم. 

كان من أشد المسلمين استياء وحزنا عمر رضي الله عنه. فقد أتى النبي الكريم متسائلا، وقال فيما قاله: “ألستَ نبيَ الله حقا؟ ” فقال، “بلى،” قال، “أولسنا بالمسلمين؟” قال، “بلى،” قال، “السنا على الحق وعدونا على الباطل؟” فأجاب رسول الله صلوات الله عليه، “بلى.” قال عمر، “فعلام نعطي الدَنيَة (النقيصة) في ديننا؟” فاجابه رسول الله، “ابن الخطاب! إني رسول الله ولست أعصيه وهو ناصري…” 

تقول الباحثة البريطانية كارين ارمسترونغ واصفة مشهد المسلمين المتوتر أنه ما زاد الماء العكر عكرا أنه قبيل توقيع الصحيفة فوجئ الجميع بمطلع ابوجندل بن سهيل بن عمرو (الذي ما زال يتعاقد مع النبي) في الجمع يطلب من النبي حمايته. وقصته انه قد اسلم من قبل، لكن ابوه قيده بالسلاسل وحبسه في المنزل، والآن استطاع الهروب والالتحاق بالمسلمين. على الفور قبضه أبوه وخاطب محمد، “إن قبلته فهذه الصحيفة لاغية ولا عهد بيننا.”

فهل يمكن للنبي ضياع مصير الجماعة وينقض عهده من أجل شخص واحد؟ 

لا. فقد قال لأبي جندل، “يا أبا جندل اصبر واحتسب فإن الله جاعل لك ولمن معك من المستضعفين فرجا ومخرجا…”

يقول الدكتور عدنان ابراهيم المعاهدات السياسية بين الدولة الإسلامية وغيرها من الدول تفوق أي معيار آخر، يقول الله تعالى:

وإن استنصروكم في الدين فعليكم النصر إلا على قوم بينكم وبينهم ميثاق والله بما تعملون بصير.” الأنفال ٧٢

ما عاناه وأبداه النبي الكريم من حكمة في هذا التعاهد مع أعدائه هو شيء يدل على عظمته ورؤوفة، وما ابداه من الليونة والدبلوماسية وقبول شروط تبدو وكأنها مخزية ومهينة، هو في الحقيقة فتح اكبر. فالله تعالى من فوق سبع سماوات ايد خطى نبيه في هذا التصالح منزلا سورة الفتح التي تقول:” انا فتحنا لك فتحا مبينا…” وهذا حقا ليس انتصار في معركة بل هو اكبر من ذلك، إنه وبنص القرآن فتح مبين، فصلى الله عليك يا نور الهدى والبصيرة وعلى الك وصحبك وسلم.

للاطلاع الأعمق لقصة معاهدة الحديبية السلمية، انظر مقالنا، حياة النبي المصطفى وقدوم الاسلام، 

https://islamic-study.org/the-life-of-prophet-muhammad-and-the-advent-of-islam/