كان من عوائد القبائل العربية ما قبل الإسلام أن تغزو بعضها البعض بغيا للمأكل والماشية، وخاصة في أوقات الجفاف. فما تصل إليه يد الغازي فهو ملكه. إحدى تلك الغنائم في إحدى الغزوات كان طفلا في ما يقارب الثمانية من العمر. تم خطفه من قرية صغيرة على تخوم بلاد الشام إذ كان مع والدته في زيارة لأهلها هناك. اسم ذلك الطفل كان زيد ووالده حارثة. زيد بيع في سوق عكاظ وكان سيده او الشاري احد اعمام خديجة بنت خويلد الاسدية والذي اهدى زيدا اليها. لما تزوجت خديجة من محمد، أهدت خديجة بدورها زيد اليه. وهكذا أصبح زيد تحت عطف وحنان محمد الهاشمي.
كان طبيعيا لأهل زيد أن يبكوه، يبحثوا عنه ويكتبوا الاشعار التي عبرت عن مدى الأسى الذي حل بهم وما قد يكون مصير وليدهم الصغير. كانت خواطر مصير زيد تاتي أبيه عند شروق كل شمس وتخوم الرياح، ولكن بلا جواب. وفي أحد الأيام يأتي أبازيد الخبر بأن زيد إنما هو في بيت محمد بن عبد مناف ممن تولوا أمر الكعبة. يطير ابا زيد فرحا إذ يوقن ان ابنه سوف يعود إليه فهو في بيت من أعرق شرفاء مكة والمشهور بالصادق الأمين. هم أبو زيد وأخوه بجمع الأموال وقدموا بها إلى مكة ليفتدوا بذلك ولدهم ويعيده الى بيته واهله.
وفي فناء البيت الحرام بمكة التقى الاخوين بمحمد يعرضان عليه المال ليشتروا منه زيد ويعيده الى اهله. لكنهم أخذوا بإنسانية هذا الانسان، محمد. قدموا إليه قائلين:
يا بن عبد المطلب، يا بن سيد قومه، أنتم أهل حرم، تفكون العاني، وتطعمون الأسير، جئناك في ولدنا، فامنن علينا وأحسن في فدائه”. لكن ما نظن في جواب انسان كمحمد معجونة نفسه بانسانية الانسان وحب الخير للبشر. كان جوابه، هل لكم بشيء أفضل من ذلك؟ وهل هناك شيء أفضل من الفدية يا محمد؟ كان جواب ابا زيد. قال نعم. ادعوا زيدا، وخيروه، فان اختاركم فهو لكم بغير فداء، وان اختارني فوالله ما أنا بالذي أختار على من اختارني فداء.” قالوا والله هذا افضل.
فلما كان اختيار زيد محمد، كان ذلك مذهلا لابيه وعمه، “ما بك يا زيد أتختار العبودية على أهلك وقومك؟ مندهشا سأله أبوه. فما كان من زيد الا قال: ما أنا بالذي أختار على محمدا أحدا أبدا.” ما الذي جعل زيد يختار العبودية تحت انسان ليس من أهله ودمه على الحرية والاب والام والعم؟ انها الانسانية التي كان يتمتع بها زيد من قبل محمد، والتي علت في محاسنها الكثير من المكارم الاخرى بما فيها أفضلية الاب والام والحرية.
يبدو أن محمدا لم يكن يتعامل مع زيد كعبد، بل كشخصية انسانية مكرمة. فهو لم يأمره كما يأمر السيد عبده أن يعود مع أبيه فيأسره فيما لا يرغب مثلا، ثانيا يتراءى لنا أن انسانية محمد لم تعجل بأن تقول إن زيدا إنما هو طفل لم يبلغ الحلم وليس له من الرأي شيء يلتمس، لكنه ترك زيد يعبر عن شعوره كإنسان له دور حقيقي في هذه المسالة ومركز في المجتمع. و تظهر انسانية محمد جلية ايضا اذ لم يتلكأ في قبول زيد أن يبقى في بيته، حتى لا يدخل في نفسية زيد أي شعور أن محمدا ربما لا يرغب فيه.
.أما المال والغنى من فدية زيد فلا نجد لها وزن على الإطلاق في معايير محمد
ولربما يسأل سائل، إن كان موقف محمدا انسانيا لطفل صغير عى هذه الصورة، فاين انسانيته من والد الطفل وعمه، ايتركهما وكربهما؟ الجواب لا لم يكن ليتركهما بنفسية متعبة، بل تبنى زيد واسعد الابن وأبيه. ولهذا أخذ محمد بيد زيد ودخلا الكعبة معلنا لقريش أنه إنما تبنى زيد. منذ ذلك الوقت عرف زيد بابن محمد حتى جاء الإسلام والغى فكرة التبني باكملها.
هذه واحدة من الكثير من القصص التي تظهر إنسانية هذا النبي العظيم والتي شهد له فيها الغرب والشرق على قدم سواء، فصلى الله عليه وعلى آله وسلم. لا يسعنا هنا وبعد هذه القصة الانسانية الا ان نقدم لقرائنا ومشاهدينا ما قاله البروفيسور راما كريشنا راو واصفا محمدا بقوله:
محمد كان أكثر من الصادق الأمين. كان انسانيا الى نخاع عظامه، كان وجدانه انساني، وحبه للإنسان كان موسيقى روحه. ليرفع الإنسان ويطهر فؤاده ويعلم الانسانية، او بكلمة ليجعل الناس انسانيين تلك كانت رسالته.